كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)}.
لما بين أنهم لا يؤمنون بين أن ذلك من الله فقال: {إِنَّا جَعَلْنَا} وفيه وجوه أحدها: أن المراد إنا جعلناهم ممسكين لا ينفقون في سبيل الله كما قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] والثاني: أن الآية نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين حيث حلف أبو جهل أنه يرضخ رأس محمد، فرآه ساجدًا فأخذ صخرة ورفعها ليرسلها على رأسه فالتزقت بيده ويده بعنقه.
والثالث: وهو الأقوى وأشد مناسبة لما تقدم وهو أن ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
هل للوجهين الأولين مناسبة مع ما تقدم من الكلام؟ نقول الوجه الأول: له مناسبة وهي أن قوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يس: 7] يدخل فيه أنهم لا يصلون كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} [البقرة: 143] أي صلاتكم عند بعض المفسرين والزكاة مناسبة للصلاة على ما بينا فكأنه قال لا يصلون ولا يزكون، وأما على الوجه الثاني فمناسبة خفية وهي أنه لما قال: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} [يس: 7] وذكرنا أن المراد به البرهان قال بعد ذلك بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضرورة حيث التزقت يده بعنقه ومنع من إرسال الحجر وهو يضطر إلى الإيمان ولم يؤمن علم أنه لا يؤمن أصلًا والتفسير هو الوجه الثالث.
المسألة الثانية:
قوله: {فَهِيَ} راجعة إلى ماذا؟ نقول فيها وجهان:
أحدهما: أنها راجعة إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة ولكنها معلومة لأن المغلول تكون أيديه مجموعة في الغل إلى عنقه.
وثانيهما: وهو ما اختاره الزمخشري أنها راجعة إلى الأغلال، معناه إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا ثقالًا غلاظًا بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطىء رأسه.
المسألة الثالثة:
كيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فنقول المغلول الذي بلغ الغل إلى ذقنه وبقي مقمحًا رافع الرأس لا يبصر الطريق الذي عند قدمه وذكر بعده أن بين يديه سدًا ومن خلفه سدًا فهو لا يقدر على انتهاج السبيل ورؤيته وقد ذكر من قبل أن المرسل على صراط مستقيم فهذا الذي يهديه النبي إلى الصراط المستقيم العقلي جعل ممنوعًا كالمغلول الذي يجعل ممنوعًا من إبصار الطريق الحسي، ويحتمل وجهًا آخر وهو أن يقال الأغلال في الأعناق عبارة عن عدم الانقياد فإن المنقاد يقال فيه إنه وضع رأسه على الخط وخضع عنقه والذي في رقبته الغل الثخين إلى الذقن لا يطأطىء رأسه ولا يحركه تحريك المصدق، ويصدق هذا قوله: {مُّقْمَحُونَ} فإن المقمح هو الرافع رأسه كالمتأبي يقال بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء ولم يطأطئه للشرب والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة وكأنه تعالى قال: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا فهم مقمحون لا يخضعون الرقاب لأمر الله.
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)}.
يكون متممًا لمعنى جعل الله إياهم مغلولين لأن قوله: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد فكأنه قال لا يبصرون الحق فينقادون له لمكان السد ولا ينقادون لك فيبصرون الحق فينقادون له لمكان الغل والإيمان المورث للإيقان.
إما باتباع الرسول أولًا فتلوح له الحقائق ثانيًا وإما بظهور الأمور أولًا واتباع الرسول ثانيًا، ولا يتبعون الرسول أولًا لأنهم مغلولون فلا يظهر لهم الحق من الرسول ثانيًا، ولا يظهر لهم الحق أولًا لأنهم واقعون في السد فلا يتبعون الرسول ثانيًا وفيه وجه آخر: وهو أن يقال المانع، إما أن يكون في النفس، وإما أن يكون خارجًا عنها، ولهم المانعان جميعًا من الإيمان، أما في النفس فالغل، وأما من الخارج فالسد، ولا يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا في الآفاق وَفِي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] وذلك لأن المقمح لا يرى نفسه ولا يقع بصره على يديه، ولا يقع نظرهم على الآفاق لأن من بين السدين لا يبصرون الآفاق فلا تبين لهم الآيات التي في الآفاق وعلى هذا فقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أعناقهم} [يس: 8] {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في الأنفس والآفاق، وفي تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} مسائل:
المسألة الأولى:
السد من بين الأيدي ذكره ظاهر الفائدة فإنهم في الدنيا سالكون وينبغي أن يسلكوا الطريقة المستقيمة ومن بين أيديهم سدًا فلا يقدرون على السلوك، وأما السد من خلفهم، فما الفائدة فيه؟ فنقول الجواب عنه من وجوه الأول: هو أن الإنسان له هداية فطرية والكافر قد يتركها وهداية نظرية والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول: جعلنا من بين أيديهم سدًا فلا يسلكون طريقة الاهتداء التي هي نظرية {وجعلنا من خلفهم سدًا} فلا يرجعون إلى الهداية الجبلية التي هي الفطرية الثاني: هو أن الإنسان مبدأه من الله ومصيره إليه فعمى الكافر لا يبصر ما بين يديه من المصير إلى الله ولا ما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله الثالث: هو أن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع وإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه فالموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة لأنه مهلك فقوله: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ومِنْ خَلْفِهِمْ} إشارة إلى إهلاكهم.
المسألة الثانية:
قوله تعالى: {فأغشيناهم} بحرف الفاء يقتضي أن يكون للإغشاء بالسد تعلق ويكون الإغشاء مرتبًا على جعل السد فكيف ذلك؟ فنقول ذلك من وجهين أحدهما: أن يكون ذلك بيانًا لأمور مترتبة يكون بعضها سببًا للبعض فكأنه تعالى قال: {إِنَّا جَعَلْنَا في أعناقهم أغلالا} فلا يبصرون أنفسهم لإقماحهم وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذٍ يمكن أن يروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله: وجعلنا على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون شيئًا أصلًا وثانيهما: هو أن ذلك بيان لكون السد قريبًا منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة على أبصارهم فإن من جعل من خلفه ومن قدامه سدين ملتزقين به بحيث يبقى بينهما ملتزقًا بهما تبقى عينه على سطح السد فلا يبصر شيئًا، أما غير السد فللحجاب، وأما عين السد فلكون شرط المرئي أن لا يكون قريبًا من العين جدًا.
المسألة الثالثة:
ذكر السدين من بين الأيدي ومن خلف ولم يذكر من اليمين والشمال ما الحكمة فيه؟ فنقول، أما على قولنا إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر، وأما على غير ذلك فنقول بما ذكر حصل العموم والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة، لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم فيجعل الله السد هناك فيمنعه من السلوك، فكيفما يتوجه الكافر يجعل الله بين يديه سدًا ووجه آخر: أحسن مما ذكرنا وهو أنا لما بينا أن جعل السد صار سببًا للإغشاء كان السد ملتزقًا به وهو ملتزق بالسدين فلا قدرة له على الحركة يمنة ولا يسرة فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشمال وقوله تعالى: {فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} يحتمل ما ذكرنا أنهم لا يبصرون شيئًا، ويحتمل أن يكون المراد هو أن الكافر مصدود وسبيل الحق عليه مسدود وهو لا يبصر السد ولا يعلم الصد، فيظن أنه على الطريقة المستقيمة، وغير ضال.
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)} أي الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى الإيمان منهم إذ لا وجود له منهم على التقديرين، فإن قيل إذا كان الإنذار وعدمه سواء فلماذا الإنذار؟ نقول قد أجبنا في غير هذا الموضع أنه تعالى قال: {سَوَاء عَلَيْهِمْ} وما قال سواء عليك فالإنذار بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس كعدم الإنذار لأن أحدهما مخرج له عن العهدة وسبب في زيادة سيادته عاجلًا وسعادته آجلًا، وأما بالنسبة إليهم على السواء فإنذار النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج عما عليه وينال ثواب الإنذار وإن لم ينتفعوا به لما كتب عليهم من البوار في دار القرار.
{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}.
والترتيب ظاهر وفي التفسير مسائل:
المسألة الأولى:
قال من قبل: {لّتُنذِرَ} [يس: 6] وذلك يقتضي الإنذار العام على ما بينا وقال: {إِنَّمَا تُنذِرُ} وهو يقضي التخصيص فكيف الجمع بينهما؟ نقول من وجوه: الأول: هو أن قوله: {لّتُنذِرَ} أي كيفما كان سواء كان مفيدًا أو لم يكن وقوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ} أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة إلى من يتبع الذكر ويخشى الثاني: هو أن الله تعالى لما قال إن الإرسال والإنزال، وذكر أن الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى أهل العناد قال لنبيه: ليس إنذارك غير مفيد من جميع الوجوه فأنذر على سبيل العموم وإنما تنذر بذلك الإنذار العام من يتبع الذكر كأنه يقول: يا محمد إنك بإنذارك تهدي ولا تدري من تهدي فأنذر الأسود والأحمر ومقصودك من يتبع إنذارك وينتفع بذكراك الثالث: هو أن نقول قوله: {لّتُنذِرَ} أي أولًا فإذا أنذرت وبالغت وبلغت واستهزأ البعض وتولى واستكبر وولى، فأعرض بعد ذلك فإنما تنذر الذين اتبعوك الرابع: وهو قريب من الثالث إنك تنذر الكل بالأصول، وإنما تنذر بالفروع من ترك الصلاة والزكاة من اتبع الذكر وآمن.
المسألة الثانية:
قوله: {مَنِ اتبع الذكر} يحتمل وجوهًا الأول: وهو المشهور من اتبع القرآن الثاني: من اتبع ما في القرآن من الآيات ويدل عليه قوله تعالى: {والقرءان ذِي الذكر} [ص: 1] فما جعل القرآن نفس الذكر الثالث: من اتبع البرهان فإنه ذكر يكمل الفطرة وعلى كل وجه فمعناه: إنما تنذر العلماء الذين يخشون وهو كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] وكقوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [البقرة: 82] فقوله: {اتبع الذكر} أي آمن، وقوله: {وَخشِيَ الرحمن} أي عمل صالحًا وهذا الوجه يتأيد بقوله: {فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لأنا ذكرنا مرارًا أن الغفران جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور والأجر الكريم جزاء العمل كما قال تعالى: {الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ: 4] وتفسير الذكر بالقرآن يتأيد بتعريف الذكر بالألف واللام، وقد تقدم ذكر القرآن في قوله تعالى: {والقرءان الحكيم} [يس: 2] وقوله: {وَخشِيَ الرحمن} فيه لطيفة وهي أن الرحمة تورث الاتكال والرجاء فقال مع أنه رحمن ورحيم فالعاقل لا ينبغي أن يترك الخشية فإن كل من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر فالخوف منه أتم مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة وتكملة اللطيفة: هي أن من أسماء الله اسمين يختصان به هما الله والرحمن كما قال تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] حتى قال بعض الأئمة: هما علمان إذا عرفت هذا فالله اسم ينبىء عن الهيبة والرحمن ينبىء عن العاطفية فقال في موضع {يرجو الله} [الأحزاب: 21] وقال ههنا: {وَخشِيَ الرحمن} يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا عنه رجاءكم ومع كونه ذا رحمة لا تأمنوه، وقوله: {بالغيب} يعني بالدليل وإن لم ينته إلى درجة المرئي المشاهد فإن عند الانتهاء إلى تلك الدرجة لا يبقى للخشية فائدة.
والمشهور أن المراد بالغيب ما غاب عنا وهو أحوال القيامة، وقيل إن الوحدانية تدخل فيه، وقوله: {فَبَشّرْهُ} فيه إشارة إلى الأمر الثاني من أمري الرسالة فإن النبي صلى الله عليه وسلم بشير ونذير وقد ذكر أنه أرسل لينذر وذكر أن الإنذار النافع عند اتباع الذكر، فقال بشر: كما أنذرت ونفعت، وقوله: {بِمَغْفِرَةٍ} على التنكير أي بمغفرة واسعة تستر من جميع الجوانب حتى لا يرى عليه أثر من آثار النفس ويظهر عليه أنوار الروح الزكية {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي ذي كرم، وقد ذكرنا ما في الكريم في قوله: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4] وفي قوله: {وَرِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 31].
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}.
في الترتيب وجوه أحدها: أن الله تعالى لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بها المكلف مؤمنًا مسلمًا ذكر أصلًا آخر وهو الحشر وثانيها: وهو أن الله تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله: {فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} [يس: 11] ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال: إن لم ير في الدنيا فالله يحيي الموتى ويجزي المنذرين ويجزي المبشرين وثالثها: أنه تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحياء الموتى وفي التفسير مسائل:
المسألة الأولى:
{إِنَّا نَحْنُ} يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون مبتدأ وخبرًا كقول القائل:
أنا أبو النجم وشعري شعري.. ومثل هذا يقال عند الشهرة العظيمة، وذلك لأن من لا يعرف يقال له من أنت؟ فيقول: أنا ابن فلان فيعرف ومن يكون مشهورًا إذا قيل له من أنت يقول أنا أي لا معرف لي أظهر من نفسي فقال: إنا نحن معروفون بأوصاف الكمال، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا تنكر قدرتنا على إحياء الموتى وثانيهما: أن يكون الخبر {نُحْىِ} كأنه قال إنا نحيي الموتى، و{نَحْنُ} يكون تأكيدًا والأول أولى.
المسألة الثانية:
{إنا نحن} فيه إشارة إلى التوحيد لأن الاشتراك يوجب التمييز بغير النفس فإن زيدًا إذا شاركه غيره في الاسم، فلو قال أنا زيد لم يحصل التعريف التام، لأن للسامع أن يقول: أيما زيد؟ فيقول ابن عمرو ولو كان هناك زيد آخر أبوه عمرو لا يكفي قوله ابن عمرو، فلما قال الله: {إِنَّا نَحْنُ} أي ليس غيرنا أحد يشاركنا حتى تقول أنا كذا فنمتاز، وحينئذٍ تصير الأصول الثلاثة مذكورة؛ الرسالة والتوحيد والحشر.
المسألة الثالثة:
قوله: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} فيه وجوه أحدها: المراد ما قدموا وأخروا فاكتفى بذكر أحدهما كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] والمراد والبرد أيضًا وثانيها: المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة وهو كما قال تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] أي بما قدمت في الوجود على غيره وأوجدته وثالثها: نكتب نياتهم فإنها قبل الأعمال وآثارهم أي أعمالهم على هذا الوجه.
المسألة الرابعة:
وآثارهم فيه وجوه الأول: آثارهم أقدامهم فإن جماعة من أصحابه بعدت دورهم عن المساجد فأرادوا النقلة فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يكتب خطواتكم ويثيبكم عليه فالزموا بيوتكم» والثاني: هي السنن الحسنة، كالكتب المصنفة والقناطر المبنية، والحبائس الدارة، والسنن السيئة كالظلمات المستمرة التي وضعها ظالم والكتب المضلة، وآلات الملاهي وأدوات المناهي المعمولة الباقية، وهو في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجر العامل شيء، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها».
فما قدموا هو أفعالهم وآثارهم أفعال الشاكرين فبشرهم حيث يؤاخذون بها ويؤجرون عليها والثالث: ما ذكرنا أن الآثار الأعمال وما قدموا النيات فإن النية قبل العمل.
المسألة الخامسة:
الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال: نحيي ونكتب ولم يقل نكتب ما قدموا ونحييهم نقول الكتابة معظمة لأمر الإحياء لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياء وإعادة لا يبقى لها أثر أصلًا فالإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره، فلهذا قدم الإحياء ولأنه تعالى لما قال: {إِنَّا نَحْنُ} وذلك يفيد العظمة والجبروت، والإحياء عظيم يختص بالله والكتابة دونه فقرن بالتعريف الأمر العظيم وذكر ما يعظم ذلك العظيم وقوله: {وَكُلَّ شيْء أحصيناه في إِمَامٍ مُّبِينٍ} يحتمل وجوهًا أحدها: أن يكون ذلك بيانًا لكون ما قدموا وآثارهم أمرًا مكتوبًا عليهم لا يبدل، فإن القلم جف بما هو كائن فلما قال: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} بين أن قبل ذلك كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوه كتب عليهم أنهم فعلوه وثانيها: أن يكون ذلك مؤكدًا لمعنى قوله: {وَنَكْتُبُ} لأن من يكتب شيئًا في أوراق ويرميها قد لا يجدها فكأنه لم يكتب فقال: نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين وهذا كقوله تعالى: {عِلْمُهَا عِندَ رَبّي في كتاب لاَّ يَضِلُّ رَبّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52] وثالثها: أن يكون ذلك تعميمًا بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم وليست الكتابة مقتصرة عليه، بل كل شيء محصي في إمام مبين، وهذا يفيد أن شيئًا من الأقوال والأفعال لا يعزب عن علم الله ولا يفوته، وهذا كقوله تعالى: {وَكُلُّ شيء فَعَلُوهُ في الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} [القمر: 52، 53] يعني ليس ما في الزبر منحصرًا فيما فعلوه بل كل شيء فعلوه مكتوب، وقوله: {أحصيناه} أبلغ من كتبناه لأن من كتب شيئًا مفرقًا يحتاج إلى جمع عدده فقال: هو محصي فيه وسمي الكتاب إمامًا لأن الملائكة يتبعونه فما كتب فيه من أجل ورزق وإحياء وإماتة اتبعوه وقيل هو اللوح المحفوظ، وإمام جاء جمعًا في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} [الإسراء: 71] أي بأئمتهم وحينئذٍ فإمام إذا كان فردًا فهو ككتاب وحجاب وإذا كان جمعًا فهو كجبال وحبال والمبين هو المظهر للأمور لكونه مظهرًا للملائكة ما يفعلون وللناس ما يفعل بهم وهو الفارق يفرق بين أحوال الخلق فيجعل فريقًا في الجنة وفريقًا في السعير. اهـ.